"لطالما عملت على خدمة الثقافة في بلادي بالرجوع إلى الثقافة الكونية"
محمد المصمودي 1934-2013
ليس أفضل من هذه العبارة مدخلا إلى مكنونات روح فقيد الثقافة في تونس المرحوم محمد المصمودي، تلك الروح المجبولة على حب الثقافة والتفاني في خدمتها، والتي جعلت صاحبها يحظى بالاحترام والتقدير حيا وميّتا حتّى أن صديقه أحمد ونيّس خصّه بمقال مطّول لا لمجرد رثائه وإنما لاطلاع أبناء هذا الوطن على مسيرة استثنائية لرجل استثنائي ولئن كان هذا المقال غيضا من فيض المكتوب عن الراحل وباللغتين العربية والفرنسية فإنّه قد يمثل السبيل الأمثل للتوقف عند أهم محطات حياة "سي محمد" كما يحلو للجميع أن ينادونه لاسيما بعد أن نقلناه من الفرنسية التي كتب بها إلى العربية في صيغة هي اقرب إلى التلخيص منها إلى الترجمة، هذا نصّها:
بينما كانت دار الجنوب تستعد كغيرها من دور النشر للمشاركة في معرض تونس الدولي للكتاب أبى القدر إلا أن يحرمها من بهجة الحدث فامتدت يد المنية إلى صاحب الدار ومؤسسها محمّد المصمودي، وهو الذي كان قد هيّأ للمناسبة من ضمن ما هيأ بضع كلمات خطّتها ريشته المرهفة محدّدة ثوابته الفكرية وثوابت دار النشر التي يديرها
"منذ أربعين سنة، دار الجنوب
نشر المعرفة
الفكر النير
رقة الإحساس وعلى الأبد"
كذا كانت خاتمة الرسالة ، رسالة رجل من رجالات الثقافة الأبرار في بلادنا... أمّا البداية والمنطلق فبين أسوار جامعة عريقة هي السربون، هناك تلقى دروسه في مادّة التاريخ على أيدي أساتذة أجلاء ومنها تخرّج بعد أن حصّل مادة معرفية دسمة وألمّ بمناهج العلوم الإنسانية، بل ليس من المغالاة القول انّه في تلك المرحلة كان قد حدّد لنفسه - بما يتلاءم و أفكاره- أهدافه التي من أجلها يعيش. لتكون المحطة التالية هي التدريس بمعهد صفاقس (مسقط رأسه) تجاوبا مع املاءات المرحلة، ناهيك و أن تونس في ستينات القرن الماضي كانت بأمسّ الحاجة لخدمات الجيل الجديد من الشباب الموهوبين والخلاقين والمتشبعين بقيم الحداثة.
سمات لم يشذّ عنها الفقيد بل ربما كان مثالها الأنسب ، ما بوّأه تولي جملة من المسؤوليات في سنّ مبكرة وبشكل متلاحق ، فبعد سنتين قضاّهما في التدريس أوكلت إليه إدارة متحف دار الجلّولي، فأثراه بأوّل مجموعة رسوم على الزجاج ولم يغادره إلا لمنصب أهم هو إدارة مركز الفنون والتقاليد الشعبية بتونس إذ كلف بدراسة المشروع الوطني لبعث متاحف الفنون والتقاليد الشعبية بالجهات ومن ثمّة السهر على تنفيذه، الأمر الذي لم يلبث أن تحقق على أرض الواقع في كلّ من الكاف وجربة الخ.
بعد ذلك وعلى اثر انضمامه إلى المجلس البلدي لمدينة تونس ولنيابتين متتاليتين كان له شرف المشاركة في بعث جمعية صيانة المدينة والتي شغل فيها منصب نائب رئيس.
ولانّ ولع الفقيد بالكتاب لا يقّل عن ولعه بالتراث فقد دخل في الفترة ذاتها عالم النشر من بوابة "دار سيراس" ليساهم بمعية رئيسها محمد بن إسماعيل في وضع برنامج نشر ثرّي ومتنوّع مداره تونس في وجوهها المتعددّة أدبا وتاريخا وحضارة وسياحة...
ولعّل طبيعة هذا التوجه الأقرب إلى عمل القطاع العام منه إلى عمل دور النشر الخاصة هو ما جعل الرجل يحظى بثقة وزير الثقافة حينها ليسند إليه سنة 1972 مهّمة بعث الدار العربية للكتاب بالتعاون مع ليبيا على أن يكون المقر في تونس ويكون محمد المصمودي مديرا عاماّ لها.
مشروع طموح سرعان ما واجه الصعوبات جرّاء التجاذبات السيّاسية و الخلافات التي نشبت بين البلدين فعمّ الإحساس بالخيبة لدى النخبة المثقفة من الجهتين وأجهض الحلم، إلا أنّ الفقيد لم يتردد في مواجهة الواقع الجديد ببعث دار نشر خاصة به اختار لها من الأسماء "دار الجنوب" وكأولى المنشورات كتابين فنيّين التقت فيهما جماليّة الصورة بطرافة النصّ المرافق لها. الأوّل عن مكّة المكرّمة وحمل عنوان "الحجّ إلى مكّة" والثاني عن جلال الدين الرومي وعنوانه "مولانا" مشروعان ضخمان سرعان ما اتبعا ببعث سلسلتين مختصتين، ترصد الأولى المستجد والطريف من الإبداع الأدبي في العالم العربي لتقدّمه إلى القراء مشفوعا بتقديمات لصفوة النقاد من داخل تونس وخارجها، وقد حملت اسم "عيون المعاصرة" أمّا الثانية الموسومة ب" معالم الحداثة" فتهتم أساسا بالحديث من المقاربات الحضارية، وأهم ما في السلسلتين ارتباطهما بقامتين معرفيتين – كل ومجال اختصاصه – إذ تكفّل أستاذ الأجيال توفيق بكّار بإدارة الأولى فيما أدار الثانية الأستاذ الجليل عبد المجيد الشرفي، ولعل الدعم المعنوي الذي لقيه "سي محمد" (بانخراط خيرة الأساتذة الجامعيين في مشروعه) هو ما زاد من إيمانه بجدوى الفعل الذي يمارس بعيدا عن حسابات الربح والخسارة – على أهميتها – فعرفت الدار في وقت وجيز نجاحا منقطع النظير لتترسّخ مكانتها بمرور الزمن وتتوسع مشاريعها ومجالات اهتمامها...
أمّا الخط الموازي لمسيرة الرجل أي عمله في مجال التراث فانّه لم يقلّ نجاحا عن عمله بالنشر ويكفي أن نطّلع على مقتطف من مقدمة كتابه " الصناعات التقليدية الخلاّقة في تونس" والذي أصدره سنة 1983 أي بعد ثلاث سنوات من توليه إدارة "الديوان الوطني للصناعات التقليدية" – تحت مظلة وزارة السياحة – لنفهم أبعاد المشروع الذي يحمله للقطاع والذي عبّر عنه بالقول : "علينا ألا نتهرّب من أي إشكال وعلى السياسي ألاّ يتردّد أمام أي خيار إذا ما أردنا المحافظة لا فقط على مجموعة تقنيات وارث فنّي وإنما على مكون أساسي من مكونات مجتمع الغد وأداة لا تقدّر بثمن لخلق التوازن بين الطبقات الاجتماعية وبين المدن ولبناء مجتمع قويم هو أسمى ما يطمح له الرجال".
ولكم كانت النبوؤة صادقة، فصاحب هذا القول هونفسه باعث الدورة الأولى لمعرض الصناعات التقليدية سنة 1983 والذي بلغ عدد دوراته حتّى لحظة كتابتنا هذه الأسطر ثلاثين دورة...
ذاك هو محمد المصمودي عزم لا ينضب وطموح بلا حدود ويكفي إلقاء نظرة خاطفة على قائمة منشورات دار الجنوب وما عرفته من تطور في الخمس وعشرين سنة الأخيرة والتي خصصّها الراحل لها بشكل مطلق لنفهم أننّا بالفعل أمام مسيرة استثنائية لرجل استثنائي...
أكتوبر 2013