بمداخلة تحمل عنوان ـ تونس و العشق الضّائع : قراءة في رواية ـ لا رهبة من الماضي ـ للراحل حسين الواد . في ما يلي ه نصّها :
هي قراءة في رواية لم تتمّ، تركها صاحبها على المكتب، ورحل الرحلة لا عوْد منها. لكن، لحسن حظّها، كانت من صنف كتاباته المرشّحة عنده للنشر، رغم كونها تيتّمت ليلة اكتمالها، فلم تحظ، شأن كلّ الأعمال الفنّيّة، للتجميل، ولا حتّى بعنوان. كما ذكرت في التصدير، أودع عندي كعادته نسخة منها على أمل لم يتحقّق، فاخترت لها «لا رهبة من الماضي».
كانت أعمال حسين تمرّ على مراحل متعدّدة الأطوار: فهي تبدأ بخواطر شخصيّة ذاتيّة لا يشاركه فيها أحد، قبل أن يبوح بسرّها للأقرباء متحسّسا ردودهم، لتتحوّل بعد ذلك إلى نصّ يقرؤه الأصفياء ويغربلونه فيتّبعهم الفنّان الأديب مطمئنّا إلى أحكامهم مرّات ومرّات قبل أن يأخذ قراره بغلق العمل على صيغة أخيرة.
كانت العادة أنّ الصيغة الأخيرة لأعماله تمرّ بيني وبين أستاذنا توفيق بكّار. في هذه المرّة لم يكن أستاذنا حاضرا. ولو كان بيننا، لجازفت تحت رقابته بتحسينات أسلوبيّة وفنّيّة تجعل الرواية أسبك، وأغراضها أوضح. أمّا وقد رحل كالمتواعدين، لم يبق لي غير التصدير، وقد كتبنه، وغير هذا التذييل. وها أنا له بكلمات غرضها رفع التباس ممكن، يبعدها عن صمت المؤرّخ الحزين، الذي بدأ في الروائح على غير ما انتهى إليه في الغربان.
ليست هذه الرواية بالمنقطعة عن «روائح المدينة» المنتهية ظاهرا بـ»الغربان». فإن كان ظاهرها قصّة أصدقاء ثلاثة فشلوا في الحبّ والزواج، فإنّ حقيقتها أنّها قصّة أصناف ثلاثة من جيل عشق تونس وحلم لها بمصير غير ما هي عليه اليوم.
إن كانت «الروائح» وصفا شعريّا لوجدان، وندبة ساخرة مريرة من مؤرّخ حزين أضنته مقامات التعفّن والفساد وما تنشره من رياح كريهة، وأحداث جعلت البلاد ماخورا سوقيّا متّسع الأرجاء متنوّع العهر والقيادة عبر أربعة عهود من تاريخها الحديث، عهد البايات والاستعمار والاستقلال والتغيير المبارك، وإن كانت «الغربان»، عهدا خامسا فجّر النقرة العفنة
المغطّاة، بثورة ليس لها من فضل غير تعرية العورات الحقيقيّة التي تخفيها طبقات الشعب وتنسبها نفاقا للنظام وحده، لتجعل البلاد كالجثّة الحيّة الجريحة تنعق فوقها نواعق الأفراد والأحزاب والجماعات، فإنّ هذه الرواية اليتيمة الثكلى جرت كارتداد الصدى من الموضوع إلى الذات. فليس المسؤول في هذه الرواية دولا وأنظمة طواها التاريخ، ولا شعبا منافقا فضح نفسه لمّا افتكّ الحكم له، فأظهر دناءة فساده، ودناءة أنويّاته، وسخافة حقوقه، واستعداده لكلّ غنم على حساب الوطن. صار المسؤول في هذه الرواية جيل الراوي، وجيل المؤرّخ الحزين؛ هذا الجيل الذي رفض الاستبداد، وعارضه، قبل أن يفهم أنّ الشعب، هذا الشعب، غير مؤهّل لتسيير ذاته وحفظ مكتسباته، بل مؤهّل لإنبات الاستبداد، ونشر الرداءة والفساد. هذا الجيل الذي آمن بالتعليم حلا وحيدا، وعشق البلاد عشق العبادة، هو المسؤول عن فشله في هذه الرواية، والمتسائل النابش لقبر مثله، وجثث قيمه، عن سرّ فشله في عشق تونس، وسرّ انتصار الآخرين الخارجين من بطنها العفن العابق بالروائح.
تونس في هذه الرواية أنثى حبيبة، تظهر ما لا تبطن، وتنصاع لوليّها المستهتر والوصوليّ والمتحايل وتهرب من العاشق المقدّس لها لترمي جسدها المغتصب لحما حلالا للغربان.
لا يرمز أيّ بطل من الأبطال الثلاثة الرئيسيّين، حمدة والصادق وسالم، إلى شخص بعينه. إلا أنّ بعض جيلنا قد يجد في أحدهم بعضا من شخصيّته. فهؤلاء الأبطال نماذج لا غير، لجيل جرى لهدف، وبقي يجري في الخلاء وحده.
حمدة نموذج من نسمّيه في دارجتنا بيتيم الحياة، أي نموذج من عاش يتم طلاق الناشز، بعيدا عن الوالدين، واتّكل على نفسه وعزيمته ليجد نفسه يوما لطيبته وحرارة زهرة في الفراش صهر طبقة وصوليّة دنيئة لا يقبل قيمها المتدهورة. لم يكن متسيّسا كثيرا، ولكنّه صاحب مبادئ، لا يضع يده موضع سوء؛ فهو ملزم دائما بدفع الثمن.
صادق نموذج ابن المدينة غير المحتاج، عاش يتم المدلّلين، ويتم الزواج المعلّق وغير المتكافئ بين أب فاشل يلوك من ماضيه متع الجسد وأمّ عاديّة تحسن صون المظاهر، لم يكن هاملا، لكنّه ذهب ضحيّة نزواته المثاليّة، وحملته قيمه، وتوجّهاته السياسيّة العروبيّة المسلمة، رغما عنه، إلى مآزق جعلته أسير النظام الذي قاومه، عميلا رغم أنفه، يحاول قدر جهده المحافظة على حدّ أدنى من الكرامة، وحدّ أدنى في خدمة الوطن.
سالم نموذج الريفيّ الفقير الريفيّ المصارع واليتيم الأب حقيقة، والمتحمّل لدناءة وضعه والمحافظ قدر استطاعته على كرامة أهله وعرض أمّه وأختيه. هو الناجح في دراسته نجاحا لم يجده نفعا. وهو الأكثر تجذّرا في الحداثة والأعمق ثقافة، والأقرب إلى يسار موضوعيّ واقعيّ وغير مسيّس؛ قرأ لأكبر الفلاسفة؛ فكان نتشويّا وكان رومنطيقيّا وكان عقلانيّا مثاليّا وكان متضلّعا في الفكر الاشتراكيّ، متنبّها إلى سطحيّة من يظنّون أنفسهم الرفاق وأنبياء الثورة. اختار سبل التعليم والتوجيه بعد الخدمة في الحضائر والدهانة والبناء. وجرّب الصحافة ونصح الوزراء. وارتضى لنفسه الكتاب والاعتكاف والكأس. كان من نمط المرشّحين من جيلنا للموت يوما بقلبه. وهذا ما وقع لسالم بالفعل.
في مقابل هؤلاء الثلاثة معشوقات ثلاث، كلّ واحدة منهنّ تمثّل نمطا أنثويّا من المجتمع التونسيّ يعكس نسبيّا خصائص طبقة من المجتمع، وصورة باهتة من تونس اللعوب والطيّبة الساذجة، والحسناء الموعودة لقربان.
نوال صاحبة الصادق هي الأولى، تجمع بين النرجسيّة الأنثويّة، والرغبة في أن تمنح للذكر ما يظنّه من خصالها؛ لا كاذبة ولا مخادعة؛ هي هكذا خلقت، حرباء تعيش حينها لحينها، ذات طبع ومزاج لا يصلح لعاشقها الجدّيّ ولا يحملها إلى مصير حسن. كذلك وسطها، على ما يبدو. فهي ووسطها لوحة أولى من تونس؛ فلا غرو أن يكون إخفاق صادق في عشقها موازيا لإخفاقه السياسيّ العروبيّ المسلم غير الملائم لنوال، إخفاقا أدّى به إلى خدمة نظام كريه يمسكه من خصيتيه.
زهرة صاحبة حمدة بنت لطيفة مرحة لا تحسب لشيء حسابا. ليست جميلة، لكنّها دافئة، بل سخنة، تحسن ملء الفراش، تمتّع عشيقها بسخاء ولطف؛ لكنّها تسمع كلام أمّها، وتطيع والدها الدنيء، وتعيش في عائلة تحبّ المظاهر وتحسب للمال والعلاقات حسابها، ولا ترى بأسا في شيء من التحرّر الجنسيّ المراقب والمحسوب. فمن الطبيعيّ أن يجد حمدة نفسه في الأخير على هامش هذه العائلة وطبقتها الوصوليّة، وأن يكون بجدّيّته وذكائه وكفاءته وترفّعه غير صالح لأيّ مهنة في البلاد، لا قبل هجرته خارجها مطلّقا، ولا بعد رجوعه رجل أعمال ناجح في الخارج، مطموع فيه في الداخل. ولم يكن حظّه مع غيرها أحسن، لا لنقص فيه، فالعلاقات الجنسيّة متوفّرة له ولصديقيه، ولكنّ شيئا في نساء تونس يجعلهنّ ضحايا مخادعات، كتونس تماما، لهنّ ذكاء ودهاء، يصنّ به أنفسهنّ من أطماع المتاجرة، ويمكّنهنّ من بعض المتع.
يتّضح وضعهنّ الحرج هذا أكثر مع نيفان، صاحبة سالم، سالم الرصين الواقعيّ الذي كثيرا ما وقف في وجه الصادق غير قابل لنوال، ولا راضيا بتجربة حمدة مع زهرة. ليس لنيفان شيء من نوال ولا شيء من زهرة. لكنّها الضحيّة المثال الملخّص لأوضاع المرأة التونسيّة، ولأفضل وجه من وجوه تونس.
اعترضها صدفة في دار أختها التي كانت زوجة طبيب أسعفه وأعانه على القوت بجعله مؤدّبا لابنه الفاشل الغبيّ. وجدها من عائلة راقية، وذات أصول ومثالا للطيبة والاستقامة والجمال والثقافة. تملك ثروة مريحة لم ينازعها أحد من أهلها فيها. أصابها في أوّل شبابها وهي في الباكالوريا مسّ لا يعرف أحد سرّه. لكنّها عادت إلى الحياة بلقائها سالم، فصارت تلميذته، ورجعت إلى الدراسة والنجاح. ثمّ صارت الحبيبة المنفلتة عنه.
أحبّها. وتحمّل حالات الفزع التي يصيبها كلّما اقترب منها. وأحبّته حبّا صادقا مكتوما، حبّا لصدقه لم يؤدّ بها إلا إلى الفرار منه خوف فقدانه فقدان الحاضر القريب. تاركة له رسالة عن سرّها الذي لا يعرفه أحد، والذي يبرّر في نظرها فرارها منه.
وجدت نفسها فجر ليلة حفل، وقد زارت أخاها وزوجته بأوربّا، ضحيّة تخدير واغتصاب وحشيّ رهيب من الأمام والخلف، وفي غرفة قرب غرفتها أخوها غافلا عنها في نوم عميق مع صاحبته من شدّة السكر. حدث لم يخرجها من أثره غير سالم، ولم يعلم به سالم إلا يوم سفرها خلسة، وعدته بلقاء في مكان واتجهت نحو المطار بدون رجعة، لم تترك له أيّ سبيل للقائها، ولا أيّ سبيل لمعرفة مكانها.
اكتشف في آخر أيّامه بعد عقود عاشها وحيدا مع ذكراها، عن طريق الصادق وأجهزته الأمنيّة أنّ هذه التي أحبّها ووجّهها إلى الفلسفة وهذّب تفكيرها، وأنار لها سبل المعرفة، تزوّجت في منفاها بإسلاميّ ثريّ، أنجبت منه رأسا من رؤوس الإرهاب بتركيا والعالم الإسلاميّ.
زار أختها لمّا علم بذلك بعد عقود من فرارها منه، فوجدها حانقة عليه. أوهمتها نيفان بأنّه تزوّجها سرّا وطلّقها.فكانت تلك الضربة القاضية التي حملته إلى قبره. وجعلت الصادق وحمدة يتواعدان على فراق أبديّ وألا يحضر أحدهما لدفن الآخر.
كم الشبه شديد بين عشق سالم لنيفان وعشق جيلنا لتونس المغتصبة. وكم الشبه شديد بين فرار نيفان وفرار تونس منّا. تركت الجيل الذي أنساها الاغتصاب، وثقّفها لترتمي في حضن ثريّ عالميّ تنجب منه الدين والإرهاب.
لم تكن تونس سوى نوال اللعوب بدون خبث، سخرت بإعجاب من جيل وطنيّ أصيل لم ير من حقيقتها غير ما صوّرت له مخيّلته المثاليّة. ولم تكن تونس أيضا سوى زهرة التي تلاعب بها أهلها الوصوليّون، عهّروها بعيدا عن جيل عشقها بصدق رغم جمالها المحدود.ولم تكن نيفان سوى ما آلت إليه تونس. اغتصبها الغرب وتركت عشّاقها إلى الغربان.
لا مهرب من الماضي. فهو صانع الحاضر وهو صانع المستقبل أيضا. فلماذا نخافه إذن ما دامت روائح الحاضر مجرّد امتداد مكثّف لروائح الماضي.
ليس السؤال في هذا النصّ: لماذا كانت تونس الأنثى هكذا؟ بل السؤال لماذا كنّا المثاليّن الجدّيّين الفاشلين؟ لماذا وجدنا تونس، رغما عنّا، على غير ما عملنا لتكونه؟ لماذا لم يجدنا نفعا أنّنا قرأنا التاريخ ورأينا العيوب وكوّنّا أجيالا كان من المفروض أن تنقذ تونس من شرّ الاستبداد والاغتصاب؟ فإذا بها تصنع شيئا آخر غير الثورة التي حلمنا بها؟
هل كان عشقنا في غير محلّه؟ أم كانت العولمة أقوى منّا؟ أم هو التاريخ يسير على غير ما نريد؟