هذا شاعر آخر يمضي الى الرواية. فبعد شريط "قصائد" عام 1988، وديوان "جلّنار" عام 1997، يتقدم عبدالجبار العش بروايته "وقائع المدينة الغريبة" تونس اصدار خاص - 2002 التي تبدأ بالكارثة: الانتحار الجماعي الذي أودى بأربعة موسيقيين وخمسة شعراء وثلاثة رسامين وخمسة فلاسفة ومخرجين وثلاثة قصاصين، والمجموع إذاً هو اثنان وعشرون مثقفاً، بثت الإذاعة انهم انتحروا بعد تعاطيهم الهيرويين، وعرض التلفزيون مشهد انتحارهم الذي قد يكون أيضاً، على ذمة راوي الرواية - نذير الحالمي - جراء تأثر أولاء المثقفين بنظرية الموت قبل فوات الأوان!
فلنقل ان المدينة الغريبة قتلت - صراحة أو مواربة: انتحروا - مثقفيها، ثم "ابتدأ كل شيء بعد يومين فقط من حدوث الكارثة". وكما في رواية غازي القصيبي "العصفورية" حيث يلتصق الكرسي بظهر صاحبه في سخرية موجعة من المتعلق بمنصبه الى الأبد، ها هو عبدالجبار العش يرسم التصاق الكرسي المثبت على أرض المقهى بمؤخرة صالح العوداجي الموسيقي الذي يغني في الأعراس، ويؤدي ابتهالات تبثها الفضائيات. ولم تنفع محاولات دحدوح صاحب المقهى ولا الدولة في تحرير الكرسي من صالح، ولا في تحرير صالح من الكرسي. فقد التصقت أيضاً قدما الرجل بالأرض، وحين حفرت حولهما حفرة، انبثق الدم منها مطابقاً لفصيلة دم صالح.
ترصد الرواية تداعيات هذا الحدث الغرائبي، من تركيب مرحاض للمبتلى، الى ممارسته الجنس مع زوجته وفرجة القطيع البشري عليه، الى محاولة دحدوح الافادة من البلية... وانتهاءً بفصل جلد قدمي صالح عن الأرض، ما جعلها تنزف، وصالح يشحب حتى الموت.
بعد حدث الالتصاق يستولي الندم على صالح وما مضى من حياته التافهة، فهو لم ينجز لحناً واحداً، ولم يقل: لا، إلا لزوجته: "كل شيء كان يجري وفق نظام صارم... أشعر الآن برغبة عارمة في المغامرة". وفي جوابه عن سؤال المخبر يؤكد ايمانه بالخوارق: "ولكن ما شأن الخوارق بي؟ أنا رجل مسالم ليس لي أعداء". وفي جواب آخر عما إن كان شعر بنزف الدم منه قال: "مثلما يسيل الصوت من الوتر". وفي وصفه للألم يقول: "كلما مزجت صوتين أتى صوت لا يشبه إلا نفسه".
هذا التجنيح لكلام الموسيقي المبتلى يجعل المخبر يسأله عما إذا كان يتحدث عادة على هذا النحو، فيجيب: "يقول الصوت هذا صوتي". ولا يخفى مرمى الراوي نذري الحالمي من هذا التجنيح، وهو من يقول منذ البداية: "عليّ الآن أن أقتنع ولو لمرة واحدة في حياتي، أنه ثمة ظواهر خارقة لا تحتمل التأويل أو التفسير". والراوي - نذير الحالمي - أستاذ للتاريخ، استقال كي يتفرغ للتأليف، فكانت له كتب "الشحاذة وأساليبها في المجتمع" و"البغاء السري في شمال أفريقيا إبان الاستعمار الثالث" و"السجون عبر التاريخ". وها هو يهيئ قارئه لوقائع المدينة الغريبة منذ حدث الكرسي، فيقول: "ولولا أنني مدفوع بواجب غامض لرواية كل ما حدث، لحجبت كل الوقائع التي حصلت منذ تلك اللحظة، لأنها من الغرابة الى درجة أنني لو سردتها لبدوت في نظر الكثير دعيّاً وكاذباً، أو حتى مهووساً أو ممسوساً". وتحت وطأة ما جرى لصالح يروّع الراوي ان يرى الإنسان "الإنسان ذلك القرد الأملط، ذلك الطاغية المرابي، المتعجرف النهاب السافل الانتهازي، المبدع الخلاق المدهش... وقد استحال خرقة، خرقة ملوثة بالبراز".
قبل انعطاف موت صالح بالرواية يستذكر نذير حكاية أبي شادي الذي عرّفه على زمبيطة، وكان يغني للعمال والطلبة قبل أن يهيم ويغني للمنسيين والمنبوذين. وسيكون استذكار زمبيطة سانحة لترسل الرواية قولاً في الجسد يكمل ما تقدم في الإنسان بعامة. فزمبيطة الموشوم لم يجر عملية تجميل تبرئه من جسده: "فمن فسخ وشماً، محا لحظة حرية"، وهو يخاطب نذيراً: "أنت تتوهم أنك حر في جسدك، والحقيقة أنك لست سوى نسخة من الآخرين"، والآخرون يخافون الأجساد الحرة التي لا تشبههم، ويخافون من يملك زمام جسده "أما زمبيطة الذي صار حكاية، فيقول: "أنا جاهل لا أقرأ ولا أكتب مثلما يقرأون ويكتبون، ولكنني أعرفهم وأعرف ما أريد من جسدي".
بفعل ما تقدم في الجسد والإنسان وكارثة المثقفين وحَدَثِ الكرسي، تتوالى وقائع المدينة الغريبة بعد موت صالح، إذ يفشو زمن العولمة، ويُقتلع تمثال الشاعر من ساحة الشعراء، ليحل محله تمثال عملاق لرجل حديد، رمزاً للتكنولوجيا، "ومنذ ذلك اليوم توالى تدشين المعالم الغريبة والتماثيل العجيبة. فمن الساعة الحائطية المرسومة على قطعة نقدية ضخمة، في اشارة خفيفة الى أن الوقت يسلب المال، الى الدولار الذهبي العملاق والذي يعكس أشعة الشمس".
في زمن العولمة هذا يتسمى المواليد الجدد بـ"مليار، مليون، طيارة... وتتزين الفتيات بالأعلام الأميركية، ويشيع التبرك بالآلة والخيال البنكي والعدسات الملونة، وتتظاهر المومسات مطالبات وزارة التقدم والمجمع العلمي بحذف كلمات بغي، مومس، داعرة، وترفض تظاهرة أخرى أمام وزارة الثقافة وكرة القدم إجبار الثيران على إهراق لقاحها في أنابيب، و... يظهر شتلْ".
وشتلْ صعلوك يسخر من التماثيل ويعشق الصعلوكة نوويرة وتعشقه: "أنا ولد حرام... ولقيت بنت حرام". وفيما يلحق العاشقان بملجأ المجانين تتفشى ظاهرة صالح: ظاهرة التصاق الكراسي بمؤخرات الناس. وفي سخرية جارحة يتابع نذير ما يتأتى على ذلك من أمر المراحيض والإشكالات الفضائية الجديدة التي تتطلب حلاً، ومن ظهور خدمات جديدة... ويتوج ذلك باستثمارات المؤسسة التي تقدم القروض للناس في مقابل رهن أعمارهم.
رداً على زمن العولمة تقوم الجبهة الدينية بالانقلاب العسكري، فيتخفى نذير عند أرملة صالح، ثم يخرج متظاهراً بما ينجيه من المتطرفين الذين أقاموا مهرجاناً لتكسير قوارير الخمر وإزالة الأنصاب، وتكون عجيبة أخرى من عجائب المدينة: أقفال الحوانيت كأقفال الدوائر، ترفض الانفتاح.
يحرق المتطرفون الكتب ومنها ما لفرج فودة وحسين مروة وزوربا ومحمود المسعدي ومحمد شكري، كما يحرقون كتاب "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، ويقيمون احتفالاً لهم: أسبوع الكرامات والإيمان في مواجهة أعوان الشيطان، حيث يوم الجمعة لصلاة الجمعة، ويوم الخميس للكيّ بالنار، ويوم الأربعاء لزيارة الأضرحة، ويوم الثلثاء للقرابين...
وهذه الغلواء تدفع بالراوي وأبي شادي مع من اندفع الى اختراق الشارع ومواجهة المتطرفين، في نزوع انتحاري. أما شتل الذي هرب مع نوويرة صبيحة الانقلاب، فبحكايتهما تُختتم الرواية، إذ تحمل نوويرة، وتقول: "لا بد من أن ألد بنتاً أو ولداً منتصب القامة، لا يسجد لأحد". وستلد ولداً وبنتاً، لكنها تموت مخلفة المدينة لخرائب - غرائب العولمة والتطرف الديني.
إن هذه الفانتازيا حد الرعب - حتى في سخريتها - تلوح مرة بـ"ملحمة السرد الخرافي" كما كتب خالد الغريبي في تقديمه لديوان عبدالجبار العش "جلنار"، وتلوح مرة بعبث طفل لا يستحي، تاه في المدينة، فجرب شوارعها وأزقتها وحاناتها ومواخيرها، وتعرف جيداً إلى الاسكافي والسمسار والمعلم والعطار والممثل والشرطي والجزار... والتجأ الى الجبل من طوفان البلاغة، كما كتب حافظ قوبعة عن ديوان "جلنار" نفسه.