«الإسلام الخارجي» (ضمن سلسلة الإسلام واحدا ومتعدّدا)، وقد صدر لها مؤخرا كتاب «زعامة المرأة في الإسلام المبكر»..عن قراءة التراث وإشكاليّات التحديث، كان لنا معها الحوار التالي..
• من خلال كتابك الأخير «زعامة المرأة في الإسلام المبكر»، لماذا عمد «المؤرخ الفقيه» إلى تشويه صورة المرأة المتمرّدة، أو لنقل المرأة الزعيمة؟ ولماذا يعتبر أنّ الزعامة هي أخطر نشوز يمكن أن تقوم به المرأة، كما قلت؟
لا يمكن أن نفهم عمل «المؤرّخ الفقيه» في ما تعمّده من تشويه لصورة المرأة الزعيمة، إلاّ إذا استحضرنا معطيَيْن، يتعلّق أوّلهما بالمفهوم التقليديّ للتاريخ، ويتعلّق الثاني بمفهوم السلطة في ظلّ تصوّر احتكاريّ استبداديّ. فالتاريخ بمفهومه التقليديّ هو تسجيل لأحداث ماضية ووصف لشخصيّات فاعلة بهدف الاعتبار بها: فتُتَّبَع إذا كانت تستجيب لمعايير المثال أو النموذج الذي تحدّده الثقافة السائدة، أو يُحَذَّر من اتّباعها إذا كانت مخالفة لهذه المعايير. ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على عناوين كتب التاريخ القديمة، حتّى نتبيّن فيها
حضورا بارزا لكلمتيْ «العبرة» و«الموعظة»، هذا فضلا عمّا تزخر به مقدّماتها من حصر لفوائد علم التاريخ في الاعتبار والاتّعاظ. ومن هنا سيراهن المؤرّخ الفقيه على تشكيل وظيفيّ للمادّة التاريخيّة التي يثبتها. والمعطى الثاني الذي يجب استحضاره -للإجابة عن سؤالك- هو مفهوم السلطة في منظومة فكريّة تبرّر الاستبداد في مختلف مستوياته وتنظّر له بما هو معطى طبيعيّ يجسّد إرادة مفارقة. ففي هذه المنظومة ليست السلطة -التي يعكسها هنا مصطلح الزعامة- شأنا متاحا للجميع، بل هو حكر على طرف أو أطراف معيّنة، أمّا البقيّة فدورهم لا يتجاوز الاستكانة والاستجابة لخدمة أصحاب السلطة. ويعنينا هنا أن نركّز على البعد الذكوريّ في هذا التصوّر، وهو بعد نعتبره عميق الأثر في توجيه عمليّات إنتاج المعنى «التاريخيّ» في الخطاب العالِم.
في ضوء هذين المعطيَيْن يمكن أن نفهم ما قام به «المؤرّخ الفقيه» من تشويه لصورة المرأة المتمرّدة، أو المرأة الزعيمة. لقد وجد في المادّة الإخباريّة المتداولة حول الفترة المرجعيّة حسب رأيه -وهي فترة الإسلام المبكّر- «حقائق» تصوِّر تجارب قياديّة كانت بطلاتها نساء. وفي منطق الاقتداء الواجب بما جدّ في هذه الفترة المرجع، يصبح من المشروع أن تتزعّم المرأة الشأن العامّ، ومن الممكن أن يُجادَلَ التصوّر الذي يضبطه لانتظام المجتمع ولتوزيع الأدوار فيه. إنّه تصوّرٌ يختزل المرأة في ما سمّاه بـ»المرأة الصالحة»، وفي ما سمّيته «بأنثى الفقيه»، ومفاده أنّ المرأة النموذج هي التي «تغضّ الأبصار، وتخفض الأطراف، وتجرّ الذيول»، من ناحية؛ و»تحسن خدمة الزوج، وتطيعه، وتحفظه في ماله وعرضه، وتستجيب بشكل غير مشروط لرغبته»، من ناحية ثانية. (أحيل هنا على نموذج واحد من نماذج عديدة في هذا الصدد، وهو كتاب عبد الملك بن حبيب، أدب النساء، تحقيق عبد المجيد التركي، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1992).
فالمرأة الفاعلة التي تزعّمت حركات، وقادت رجالا، وتحكّمت في دول، هي امرأة ناشز عن النموذج الذي رسمه المؤرّخ الفقيه وحرص على الدفاع عنه. لذلك سيعمد إلى تشويه تجاربها حتّى يحوّلها إلى دليل على صحّة الشعار الذي يحتمي به دائما وهو «ما أفلح قوم ولّوْا أمرهم امرأة». وهو شعار رفعه الفقيه المؤرّخ وليس حديثا نبويّا كما يدّعي، لأنّ الحادثة التي يُقال إنّ الرسول علّق عليها بهذا الحديث -وهي تولّي بوران بنت كسرى أمر قومها في فارس- جدّت بعد وفاة الرسول وفي آخر عهد أبي بكر.
لقد كانت تجارب الزعامة النسائيّة مستفزّة لهذا المؤرّخ، مهدّدة لنموذجه الأعلى وهو «امرأة الخدور»، بل ومهدّدة لشكل الانتظام الذي يراه للمجتمع، لذلك سيحكم عليها بالفشل والسّخْف والبدعة، حتّى تكون عبرة لمن يقبل بزعامة المرأة. واللافت للانتباه أنّ الاختلافات السائدة بين الفقهاء المؤرّخين بحكم تباين انتماءاتهم المذهبيّة، غابت في هذه النقطة بالذات وتحوّلت إلى «إجماع» بينهم على سلب المرأة كلّ فاعليّة في الشأن العامّ، مقابل الزجّ بها في مجرّد شأنهم الخاصّ: «الخدور». ولذلك وجدناهم يستعملون ذات الاستراتيجيا الخِطابيّة: التشويه عن طريق الوصم الجنسويّ، والتهميش عن طريق ضآلة المساحة النصّيّة المخصّصة لها، والتغييب عن طريق عدم إطلاق أسماء الزعامة عليها. وفي الحقيقة لا تفعل هذه الاستراتيجيا الخطابيّة إلاّ أن تكشف عن وحدة آليّات التفكير في عقول الفقهاء
المؤرّخين رغم الاختلاف الظاهر أو المعلن بينهم. إنّهم يسعون إلى إنتاج معرفة تاريخيّة معياريّة، بها يثبتون «صحّة» تصوّرهم للنظام الاجتماعي الأمثل. لكن يبدو أنّ هذه «المعياريّة» تسبّبت في خلق تباين بين صورة المرأة الزعيمة في خطابهم الرسميّ المكتوب، وصورتها في الخطاب الشعبيّ الشفويّ، هذا الخطاب المتنصّل من الرقابة ومن التوجيه الماقبليّ للدلالات. ورغم صعوبة البحث فيه لأنّه قلّ أن يُدوَّن «الشفويّ الشعبيّ» وقلّ أن يستمرّ، فقد عثرنا على مادّة كانت كافية لفضح إعادة التشكيل التي أخضع لها هؤلاء زعامة المرأة.
• من خلال ما أسلفت فالتجنّي المؤرخ على سجاح مثلا، أو على الرافضة لسلطة قريش، أو على المرأة التي تلعب دورا سياسيا.. ألا يدفعنا هذا إلى ضرورة مراجعة الإرث الديني عن بكرة أبيه؟ وإن لم نفعل بالشكل المطلوب كيف سيكون مستقبل العقل العربي؟
في الحقيقة تبدو هذه المسألة المتعلّقة بالتشكيل الوظيفيّ للتاريخ، بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة. فالتراث المكتوب الذي وصلنا والذي لا يزال يؤثّر بجدّيّة وبعمق في جوانب هامّة من العقليّة العربيّة اليوم، هو ركام من النصوص يتداخل فيها المعرفيّ بالإيديولوجيّ، والمفارق بالتاريخيّ، والظرفيّ المحدود بالقيميّ الخالد. ولذلك يظلّ في حاجة ماسّة إلى مراجعة نقديّة شاملة. ومفهوم الزعامة لا يعدو أن يكون جزءا من منظومة مفهوميّة كاملة: تؤدّي خلخلةُ ركنٍ منه إلى خلخلة أركانٍ منها. يُضاف إلى ذلك أنّ التحليل النقدي للقضايا الماضية فعلٌ....