قد يكون مستغرباً ألا تلقى رواية «محاكمة كلب» للكاتب التونسي الشاب عبدالجبار العش أي صدى عربي فتظل وقفاً على الأوساط التونسية التي رحبت بها أيّما ترحاب. هذه الرواية التي مضى عام على صدورها تستحق فعلاً أن تخترق حصارها المحلي وأن تخرج الى الساحة العربية، فهي فريدة في مادتها السردية كما في لعبتها الخطرة والجريئة. ولئن اعترى بنيتها أو لغتها شيء من وهن فإن مناخها غاية في الطرافة والفانتازيا السوداء. رواية لا تخلو من القسوة «التطهيرية»، يستحيل الراوي فيها كلباً يقف أمام القاضي في المحكمة لا ليدافع عن نفسه بل ليعلن «كلبيته» ضد العالم المتسلط وضد الجماعة والفرد على السواء. لم يُمسخ الراوي الذي يُدعى «عرّوب الفالت» كلباً كما مُسخ بطل كافكا في رواية «التحوّل» حشرة، بل هو الذي اختار هذه الصفة متمرّداً على الواقع والتاريخ وعلى القدر الذي خذله. وعندما يسأله رئيس المحكمة عن هويته يقول جهاراً وقد شعر أن النباح يملأ فمه: «أنا كلب». وعلى غرار جوزف. ك في رواية كافكا أيضاً «المحاكمة» يساق هذا المواطن المقهور الى المحكمة من دون أي تهمة. وبين المحكمة والزنزانة يكتب عبدالجبار العش ما يشبه السيرة الذاتية على لسان الراوي الذي اختار وفق ارادته أن يكون كلباً، ساعياً الى مواجهة العالم في مرآة ذاته المكسورة. وتبلغ به الجرأة أوْجها عندما يُعرب في ختام الرواية عن الحقيقة التي دفعته الى التماهي في صورة الكلب فاذا هو ابن غير شرعي، تبنّته عائلة بعدما ولد سفاحاً، وكانت أمه حاولت خنقه طفلاً لتتخلص من هذا الأثم أو العار، وفشلت فعاش وكأن الحياة عقابه كما يعبّر. ويعمد الكاتب الى فضح حياته على طريقة محمد شكري في «الخبز الحافي» فيعترف أنه اغتصب طفلاً وأنه ظل فترة في حال من العجز الجنسي. ويروي كيف التقى أمّه لاحقاً واكتشف انه لا يحقد عليها، وكيف أهدته منديلاً ليظل يشمّ رائحتها. أما الأب فهو مجهول ولا يمكن التعرّف اليه، ما دامت الأم نفسها تجهله بعدما اغتصبها أكثر من رجل.
هذه الرواية التي وقعــت بيـــن يديّ مـــصادفة ليست غريبة عما يُسمى «الأدب الحافي» الذي كان محمد شـــكري رائده عربياً مثلما كان جان جينه رائده فرنسياً. وفي الرواية هذه يظــهر أثر هذين الكاتبين مضـــافاً اليه أثر كافكاوي عميق. لكن عبدالجبار العش ينحو منحى روائياً جامعاً بين الـــسيرة الذاتية المفضوحة أو «الفضائحية» والفن الروائي. فهو لا يكتب سيرته بحسب معايير السيرة الذاتية بل يختبئ وراء قناع الراوي الذي أعلن انتماءه الكلبي جهاراً ومن غير مداورة. هنا تتجلى فرادة هذه الرواية الساخرة والهاتكة التي نادراً ما يشهد الأدب العربي ما يماثلها جرأة وسوداوية. فالبطل – الضحية شاء أن يجــــعل العالم ضحية بدوره جاعلاً من نفسه كلباً يعوي أمام أناس لا يملكون سوى كيل التهم جزافاً. وفي «عوائه» شعر أنه ينتقم لنفسه ولماضيه وحتى لأمّه التي حاولت أن تغدر به. ومع أنه أخذ عليها عجزها عن قتله أي منحه الحياة، فهو لم يسع الى قتلها مجازياً بل غفر لها إثمها غير مبالٍ بها.
لا أدري إن كان قرأ الكاتب التونسي الشاب كتاب «يوميات كلب» للياباني يوكيو موراكامي أو كتاب الألماني أوسكار باينزا الذي يحمل العنوان نفسه، أو نصّ «الرجل الذي صار كلباً» للكاتب الأرجنتيني ازفالدو دراغون. وليس مهماً إن كان قرأها ما دامت روايته مختلفة بجوّها وأحداثها وما دام بطلها (الراوي) قد تماهى في صورة الكلب تماهياً وجودياً. وقد عرف الكاتب كيف يوظف أثر كافكا من غير أن يغدو لحظة وكأنه يقلّده، وقد ابتعد عن الأسئلة الميتافيزيقية التي حفل بها عالم كافكا، مؤثراً البقاء ضمن تخوم السخرية المرّة والفتنازيا السوداء والعبثية ذات البعد النفسي.أما الحالة «الكلبية» فليست بجديدة أو طارئة على الأدب، ولطالما استعار الكتاب والشعراء «لسان» الكلب ليكتبوا به نصوصاً جريئة وساخرة وأليمة في أحيان كما فعل مثلاً الشاعر اللبناني بسام حجار في أحد نصوصه جاعلاً من عيني الكلب «كاميرا» تشهد على مأساة حلّت باحدى الأسر خلال الحرب.
عبدالجبار العـــش روائي تونسي شبه مجـــهول عربيـــاً وروايـــته «محاكمة كلب» الصادرة عن دار الجنوب التونســـية لم توزّع، على ما يبدو، في العالم العربي ما يفسّر صمت النقد العربي ازاءها، سلباً أو ايجاباً. لكن تونـــس احتفت بها وبصاحبها الذي جاء الفن الروائي من عالم الشعر. والرواية هي الثالثة له وكان أصدر أيضاً ديواناً شـــعرياً عنوانه «جلنار» عطفاً على قصائد بالعامية التونسية.
«محاكمة كلب» خــطوة جـــريئة في ما يمكن تسمـــيته «الأدب الحافي»، هذا الأدب الحـــقيقي، الجارح في صدقه والصارم في عنفه الداخلي والجريء في نزعته الفضائحـــية. وما أحــوج الرواية العربية الى مثل هذا النوع الذي يـــعرّي الأدب من أوهامه الكبيرة بل من أكاذيبه الكبيرة ويجعله رديفاً للحياة ولكن بقســوتها ومأسويتها.