أقوال الصحف
حسن بن عثمان , 09 Mar 2015 10:47
«كَوَازَكِي» لتوفيق بن بريك من منشقّ إلى مبدع
أتصوّر أن الأكاديمي والروائي حسين الواد عندما انتهى من كتاب توفيق بن بريك «كوازكي» وشرع يفكّر في تقديمه في سلسلة (عيون المعاصرة)، التي يشرف عليها الأستاذ توفيق بكّار بـ «دار الجنوب»، طافت بخلده حيرة تصنيف كتاب بن بريك، وتجنيسه الأدبي، فاحتال وتدبّر وسمّى الكتاب «مروية»، وخطّ مقدمة أسماها: (المبدعون... أيّهم «لم يكن صعبًا قيادُه»)، وهو يدرك حجم المأزق الذي يضعنا فيه الإبداع عندما يكون على غير مثال، منشقا ولقيطا وفاتنا ومدركا للفتنة ولا نسب له واضحا، يذكّر بالأجناس ويعْبُرها، وينتمي لها جميعا دون أن يختصّ بشجرة معلومة، كأنه شجرة تنضاف إلى الغابة لتدلّ على تجدّد غابة اللغة وخصوبة التربة...
أمر الإبداع محيّر حقا، كلّما تقابلنا مع الإبداع وجها لوجه، وذلك الشأن مع كتاب توفيق بن بريك الجديد «كَوَازَكِي»، ولذلك فإن حسين الواد الروائي المتمرّس بنقد النصوص الأدبية قديمها وحديثها وجديدها، بعد أن ألقى بنظرات هنا وهناك في حشايا الكتاب، وأدرك أن «طاطاوين» عاصمة السّرد في الكتاب هي مجهول الكاتب لا معلومه في الجغرافيا وفي الأعيان، وهي طاطا، مثل ط(ت)وفيق، وهي وطاواط يؤرّق ليل السّارد ونهاره في مدينة كما جاء وصفها في صلب الكتاب: «الحياة أصبحت لا تطاق في طاطاوين، عليّ الفرار بجلدي. عصر عليّ السؤال، ناداني مسقط رأسي وموطن شغلي، سيدي حمد الصالح. أرجع إليه لأكمّد الاستفهام وأوقف السؤال. أسترجع ثباتي من ثباته ثم أعود طالبا الاشتباك في الورطة»... لذلك فإن حسين الواد بحسّه الروائي المرهف جدّا تخلّص من المقدمة التي لا تقدّم ولا تؤخر بما أنها تفطنت إلى أنك إن «بحثت تحت هذا الركام عن معنى، فقد لا تقبض على غير الرياح»، وأنهى التقديم بقوله: (أرى أن توفيق بن بريك قد وضع يده، في هذا «النص»، على مخبوء جدير بالتأمّل) وذيّل ذلك بتاريخ 14/10/2014.
والمخبوء كلمة إشارية سحرية، تدور على ألسنة المؤدبين والمشعوذين، على سبيل الكنز والأجنّة. فما هو المخبوء الذي أشار إليه حسين الواد ووضع توفيق بن بريك يده عليه.
وضع اليد هو التملّك بالإغارة، كما يفعل عتاة المغامرين والخارجين على القانون ومقوّضي الأنظمة. ذلك هو حال توفيق بن بريك الشخص، مثلما نعرف عن بن بريك المنشقّ المتمرّد المقاوم الذي يصارع العرش وسكّان العرش وأشباحه وظلاله، «متخندقا، أداعب فرو الخطر، لا تظنّني مستخفّا بالهول، لا أدري عاقبة تهوّري. أعذرني كَوَزَكِي، أنا مدمن على مساءلة العرش، عرش طاطا، جُبُّ الخطر».
بن بريك في التمرّد مارد لا يضاهى، وهو بلا مثيل في تونس وفي غيرها، وله في ذلك جولات وصولات وبطولات وحكايات خرافية عالمية تُروى، وهو في ذلك قاطع طريق دولي في مجال نوعية المكتوب في الصحافة، لا يشقّ له غبار، طالما نازل نظام بن علي بطمّ طميمه وجعله يتداعى للسقوط، إلى أن سقط. وسيظل توفيق بن بريك علما على رأسه نار، كلّما ذُكر نظام بن علي وذكر خصومه وأعداؤه ومن خاضوا معه النزال على حلبة النزال الوطنية والدولية، وفي الكتاب بعض التلميحات والإشارات من تلك المسيرة الغريبة بين السريّة والسجون والمفاوضات والتهديدات والقتل موتا وبالحياة، حيث يتقابل المردة والانحطاط البشري وتتشابك الخيوط ويحضر البرق وتلعج البرقيات، خصوصا في الفصل الأخير من كوازكي، وتوفيق بن بريك من فرط شهامته وعفّته لا يُسهب كثيرا ولا قليلا عند تلك المفاصل المؤلمة، مثلما يفعل أدب السجون الجديد عندنا...
ذلك لم يعد مخبوءا في شخص بن بريك بل صار معلنا ومتلفزا ومتاحا لعلم عموم المشاهدين، ولكن المخبوء الذي أشار له حسين الواد هو مخبوء أدبي، مقروء، في السطور، وما تحيل إليه، وما تحت السطور وما فوقها، وكله على وصلة وثيقة بالكتابة الصمّاء الصميمة، وأساليبها وفنياتها وتفننها ومطلقاتها، قد يضاهي المخبوء الذي تجلّى في المسيرة والسلوك، وقد يدعّمه، وقد يفارقه، وقد يستقرّ في اللغة وفي ذاكرتها ويظلّ جاريا في أنهار مياهها، وهو مخبوء يمكن تتبّع آثاره في الكتاب وتمظهرات الحكاية وآليات الاشتغال ومناورات السرد وتلاعبه بالرواية وبالفتق والرتق، مع الانتباه والاستمتاع بتقلبات واندفاعات المخيلة وتصاويرها التي تتلاعب بالفواصل والنقاط والحروف والأسماء والأفعال والجمل والفقرات والمشاهد والاستشهادات والدهشة، عبر قلم جرّاح خبير بأسرار السرد وبواطنه، ولكنه يسرد ويسرح وينسج على غير منوال...
ليس في الكتابة ما هو على غير منوال مطلقا، فذلك لا يجوز عقلا ولا نقلا، ولكن ثمة مناويل مبثوثة في روح النص، لا في القماش والقياسات والتفصيل والخياطة والقيافة، فالسرد في كوزكي يذكّر بعمقه وقوّته بنصوص محمود المسعدي، في السدّ وفي أبو هريرة وفي تأصيل كيان، كما يذكّر بجبران خليل جبران وتصوّفه المسيحي، ويذكّر بنيتشه في زرادشت وما فوق الخير والشر، وفي تأملاته وأشعاره، ويذكّر بالتوحيدي في إشاراته ومقابساته، ويذكّر بعز الدين المدني في نقشاته وتجريبه وأصفاره، وذلك من جهة حفر توفيق بن بريك في المعاني وشوارد الأفكار، بلغة صفوية على وججها خدوش وجراح من أثر المعارك والصراعات، عبر شذرات فكرية تضيء ليل الحكمة المطمئنة إلى سوادها، وتصرخ في وحشة النهار الصاخب، وتصاب بالسعار كلّما تقابلت مع الظلم والظلام، لشخص يظنّ أنه «يجيد كلّ الأدوار ما عدا دور الأب»، ويشتهي «رأس غنمي مصليّ» ويعتبر أن «المروءة لا تُهْدى، هي درس الصّنديد ودرْبُه. أكره ما يكره نزوات الأغنياء وحكمهم على الفقراء. مسألة شرف، مع الضعيف ظالما أو مظلوما، زغلامي حرّ ضدّ الأقوياء، حتى لو لم يكن في حسابهم مثقال ذرّة شرّ».
في الصميم من كيان توفيق بن بريك، كما يتجلّى ذلك في كتابه، ذاكرة الطفولة الدامية وما لحقها من طيش الصبا وتقلبات الشباب والضيق بالموجود وبالوجود في الشمال الغربي من البلاد التونسية، حيث البحث المجنون العاصف عن عاصمة وجود الذات، وحيث « تقف سلسلة الأطلس، فكّ ذئب أبخر، تذكّرني بأعمدة كرطاج المسوّسة، يتوسّطه مرتفع جبل «الشعانبي» ناب غول الحذاء الطائر. تهديد صارخ في وجه السماء»... هناك حيث يعيش الزغالمة وهم عرش مترامي الأطراف والعروق في تلك المنطقة من «الوطاء/الأرض»، ونقرأ أن «الزّغلامي من زَغْلَمَ يُزَغْلِمُ زَغْلَمَةً، من كان في صدره غيظ وحقد وضغينة وعزم على الثأر والبادئ أظلم. قتلتهم النعرة والنغرة. عَصَبُهم في البرّ والقبر»... أما (الزغلامية كارثة، تولد إمبراطورة. لا تتزوّج من الطبقة الوسطى. تحبّ بنكا ووكالة أسفار و«أورسن ويلس» إن أمكن).
يمكن تصنيف هذا الكتاب على أساس أنه «رواية» أو «خرافة» أو «حكاية»، أو أنه «مرويّة» أو «نص» مثلما كان حال الجهة الناشرة، كما يمكن تسميته أو تصنيفه أو تجنيسه بأنه «حفلة أدبية» أو «وليمة» أو «عرض مفتوح» أو «ترنيمة» أو حتّى «خنّاقية»، تأخذ بخناق قارئها المتطفّل، وتكاد تقضي عليه، يتحرّك فيها الروحاني ويطير فيها الجسماني ولا يبقى على جلد الثور(ة) أثر برّاني، كل شيء يتم على سبيل التمتمة الهادرة التي لا ترغب في سبر أغوار البواطن بلغة الظواهر، كل ذلك مع نظرات تقدح شررا لأحد الكتّاب الخلايق، الذي يعرّي على صدره أمام الملأ، ويعلن بلا مواربة وبعينين تتوقّدان تهديدا وعصبيّة ودعوة للنزال: (آمنت إيمان العجائز وصدّقت مفتوح العينين: لو تعلّقت همّة المرء بما وراء العرش لناله. قال رسول الله: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» أنا من المحمّديين المتزمّتين، أسيء لمن يسيء له. لا تبحث كثيرا، قلها وابق على دينك: «نور قذفه الله في صدري»...
سبق لي أن قرأت لتوفيق بن بريك منذ بداياته الأولى، المتزامنة مع بداياتي، تقريبا... ومنذ أقل من سنة كتبت عن كتابه: «كلب بن كلب» الملتبس بسبب لغته الدارجة، وأجدني مع هذا الكتاب الجديد، وأسمّيه كتابا لأن بن بريك عرّف فيه معنى الكتاب، وتحدّث فيه عبر مقاطع رائعة عن الكتاب، حيث يكتب: (الكتاب كيمياء وعقاقير وفيزياء، وحيٌّ من خضمّ العيش وحضرمته على سطح طاطاوين. قليل من الموهبة وكثير من المشقّة والعرق والبخت. تدريب وممارسة واجتهاد تحت عصا مقرئ حزين. عناء التقاط الكلمة الدّقيقة، البريئة، البريّة، السّهلة، الخفيفة خفّة الرّيشة، المعبّرة، الشهيّة، التي تشبع وتروي سائل شربة الماء.
زكّيها بالتنقيط والفواصل والاستفهام والتعجّب وإشارات الاستدراك والاعتراض لينتشي الكأس)... لذلك فإن هذه «المروية» هي خلاصة مبهجة لما توصّل إليه توفيق بن بريك من رحلة صيده الطويلة، وهي كتاب بمواصفات الكتب، كما رسخ الكتاب في ذاكرة الكتب القديمة المتجدّدة الروح.
أمّا عن الشخصية المركزية في هذا الكتاب فهو كوازكي، وهو عبارة عن هيكل يمشي ويطوي الأرض، ولا تعرف في النهاية هل هو آلة مواصلات ميكانيكية أم آلة مواصلات بشرية، كما لا تعرف على وجه اليقين هل هو كركاسة توفيق بن بريك وجثّته التي يحملها وتحمله، أم كوازكي هي روح الساموراي فيه؟
أين طاطا يا طوفيق... طاطا... وين.
|
|