
لكل قوّال (صاحب قول) دابته. ومن قبله هام الملك الظليل امرئ القيس في الصحراء على فرسه المكر المفر المقبل المدبر كجلمود صخر حطه السيل من عل ، ومن بعده جال الرسول الأكرم في المعارج على براقه وقيل على دلدوله فاندلع المخيال الإسلام جلالا وبهاء، ومن بعده المتنبي على قلقله وقيل على قَلِقِه (وأكد شُرّاح المتنبي أن القلق وصف من أوصاف الفرس: «على قلِقٍ كأن الريح تحتي»)، وحسبك المعري في الحمل على الزقفونا، وظل أدب القول بلا دابة ولا مطية حتى جاء من اتخذ «كوزكي» دراجة نارية صنعت في اليابان لكي يجوب بها جغرافيته المترامية بين الحقيقية التوبوغرافية والحقيقة الهذيانية، هكذا يختار توفيق بن بريك في مرويته تلك تكنيكا انسيابيا على الضّحضاح هو اختياره لركوبة أو مطية عجيبة هي دراجة نارية أجرى على متنها القول كما يشتهي مبررا توغله العجيب من بلاد «طاطا» إلى أطلانطا كاسم استعاري أفلاطوني عن بلاد الزغالمة أحفاد سيدي أحمد الصالح البوهالي. والسارد في مرويته منتسب للبوهالي والبوهالي ليس كما يوحي به المعنى الدارج في لغتنا لكنه يخفي معنى عميقا: «أبو الهالة» (أي صاحب الهالة)نسبة لهالة القديسين المجبولين على قول الحق عاريا دون تكلف مهما كانت أخلاق الحاضر ومهما كان المصير .
لا مرجعية لركوبته أو دابته في الأدب العربي القديم والحديث إلا مرجعية الواستارن المعاصر في سينما الأمريكان. «هارلي دافدسن» الأنيقة في شريط «إيزي ريدر « Easy Rider لدنيس هوبر Denis Hopper أصبحت كوزكي عند بن بريك وتحول شريط «الرود – موفي» Road Movie كجنس سينمائي إلى «رود – مروي « Road Nove أي رواية تروى أثناء عبور الطريق. ليس كوزكي إلا تعلة على تعلة، هي مجرد وسلة نقل أو تنقل، لكن التنقل من أجل ماذا؟؟؟ هكذا يبرر صاحب كوزكي في جملة ذابحة ونزقة في نفس الوقت: «قصدت طاطاوين لأمر لا يهم». جملة عبثية من جنس ذلك العبث الأدبي النبيل حين يختم مرويته بنفس الجملة «قصدت طاطاوين لأمر لا يهم». تلك هي الطريقة، ذلك هو البناء، من لم يكن مهندسا في الحكي فلا يدخل علينا.
(2)
هل هُزم توفيق بن بريك في مكان ما أو في تجربة ما؟ أجل، إذ لاشيء يبرّر نزوع بطله إلى مغادرة مدينة طاطا العفنة (وأحسَبها العاصمة) والتوغل عميقا في جغرافية طاطاوين أو بعبارة أخرى على لسان بطله الراكب كوزكي أطلنطا المدينة الضائعة. كأننا بالكاتب متعبٌ من مدينة طاطا منهكٌ أيما إنهاك من القبح والرداءة والبذاءة والسقوط في وحل القاع وهو في حاجة إلى ملاذ آمن ربما العودة إلى الأصول، إلى أرض الأسلاف إلى فضاء الطوطم حيث ثمة أمل في التطهير وإعادة شحذ الطاقة والذاكرة والمخيال... هكذا هم المحاربون دوما، يقومون بالحج إلى المنابع تدفعهم إلى بطن الأمومة قبل ابتكار لاهوت الحروب وشريعة الإنتقام. ليس ثمة ملاذ آمن للمحاربين غير مواجهة الموت، لا خلاص لـ «همام» وهو يركب كوزاكي إلا التوغل في الخراب، كأنه نزول للعالم السفلي بالطول كلما توغل في غرب المتوسط كناية على الشمال الغربي التونسي الذي يبدأ من مجاز الباب ليصل إلى الحدود الجزائرية مرورا بالسلوقية وتستور وتبرسق ودقة والكريب وبرج المسعودي ووادي السواني وبهرة والكاف العالي وحجرة النص وتاجروين وأنقار المحاميد ووادي سراط والموزانته وسيدي أحمد الصالح البوهالي ثم التوزع في اتجاه العفنة وهنطاية وطاولة يوغرطة والقلعة الجردة وقلعة سنان وجبل بولحناش والجريصة، الحوض وخنقة العطش، وفج التمر، وحيدرة وتالة والتوغل في إتجاه ونزة وسوق أهراس إلى مشارف جبال الأوراس. يدخلنا «همام» وهو على كوزاكي إلى مملكة الهوام والمسوخ والزونبي والغيلان والسعالي والوحوش والأشباح والحجارة والضوء الأصفر والذوات المكسورة بالذل والهزائم والعذابات والقصص الحرام المتولدة عن القصص الحرام، يفتح «همام» أمامنا الجحيم على مصراعيه، جحيم أعتى من جحيم دانتي لأنه جحيم فوق الأرض، جحيم عمار عماريطا ومحمد علي والزهرة ومهرية وعارم، جحيم الجغرافيا، جغرافيا واستارن الشمال الغربي، جحيم التاريخ تاريخ الزغالمة في دولتهم الخفية والمفقودة كلعنة أبدية... لا تبحث بعيدا عن أطلطا في البحار والمحيطات والصحاري الحارة والباردة... أطلنطا الحقيقية هي سيدي حمد الصالح البوهالي وتربته، دولته كسماء مرصعة بالنجوم والنجوم هم الزغالمة، من هم الزغالمة؟ هم أمراء أضاعوا ممالكهم للأبد وفقدوا سيطرتهم على الأشياء، آخر قبائل الأنكا في غبار غرب المتوسط، من هم الزغالمة؟ هكذا يعرفهم همام صاحبي كوزاكي وهو المتحدر منهم: «الزغالمة منعزلون، أحب جار إليهم كبعد السماء على الماء، عشر كيلومترات، أكثر. يبنون الأحواش تحت جبل مغمور واعر حيث يغرد البوم ويتسلطن حنش بومغرف، كوبرا. في الطّبة المحاذية لمأواهم يغرسون، كالألغام، أدغال الهندي العزري، هناك يستريحون ويُنبتون الأفيون ويكنزون سطوتهم من اللويز والزمرد ويدفنون جثث المبعوجين» (ص 110).
(3)
هل البحث عن جد مؤسس يحتاج كل هذا العناء؟ هل الاستجارة بالأسلاف تحتاج كل هذا العناء؟,هل استذكار «عبد الله السّحار» الذي يده تجمد الماء يحتاج كل هذا العناء؟ عناء السرد والحكي؟ ربما، الثابت أن الكتابة عند توفيق بن بريك استدراج لا ينتهي للذاكرة، ذاكرة جمعية درست أثارها ولم يتبق منها إلا لعنة الهذيان على لسان «همام»، ولم يتبق منها إلا المرارة على لسان بن بريك. إذن ماذا يريد بن بريك في مرويته هذه على لسان همام؟. لقد قالها في جملة شاردة: «عدت إلى سيدي حمد الصالح لأمر يهم، أين الصحيح؟ «هكذا يسأئل همام (أي بن بريك) نفسه، وكأنه يقول لنفسه «هات الصحيح»، فيجيب: «في المبتذل» (ص 126). ما المبتذل عند توفيق بن بريك؟؟ المبتذل عنده هو الجوهري والجوهري هو القول والقول هو الكتابة. تلك معركة توفيق الأولى والأخيرة، وليس المبتذل هنا إلا تورية عن ما يغيّبُه بن بريك من نعت للكلام أو ما يغيبه عن الكتابة. فالابتذال عنده بديل عن البلاغة وهو يدرك بحدس بدائي أن التحذلق يفسد كل خطاب وكل كتابة وأن البلاغة على حد عبارة النفري «تصيب كل من يقربها بداء لا يرجى شفاؤه», ولأن جدّه الأول عبد الله السحار قد أضاع قدرته على ترويض الكلمات والأرقام، فإن من الواجب عليه أن يعيد للكلام حقيقته، أي ابتذاله وقد جربه سابقا في مروية أخرى هي «كلب بن كلب», ليس الابتذال المقصود هنا هو الإسفاف في القول وليس البذاءة أو «القباحة» وليس الإيحاء الشبقي البورنوغرافي وليس ما يحسنه البذاؤون في كلام الفحش. توفيق بن بريك يكتب في مرويته الجديدة كوزكي الكتابة ذاتها، الكتابة بوصفها إنفلاتا عن عقال النحو والصرف والبلاغة والتحذلق والأخلاق والمعرفة العليمة والقواعد. إنها التوغل في الغضب والإحتجاج والشتيمة وإعادة الشعرية المحضة الطازجة كما هي على ألسنة مبدعيها تعبيرا عن مضارع الوجود وتشوفه للقادم. الكتابة كنوع من نسيان المهارة، مهارة فنون القتال لمحارب محترف. لذلك فكوزكي نص يقدم نفسه على أساس «مروية»، أي جنس أدبي جديد وما هو بالجنس الأدبي. إذ الكاتب غير معني بالإنضباط الجنسي ـ أي إنضباط الأجناس الأدبي ـ لكنه في ذات الوقت حريص على القول كما هو معروف في الجهاز الصوتمي بالمعنى التشريحي، أي إقتناص الشفوي وهو ينشأ من أعضاء النطق كما يدركه اللسانيون، لذلك ترى توفيق في كوزكي حريص على تصويب المعنى في الحروف، ليس ولعه بالحروف وتقليبها ولعا صوفيا أو تنجيميا، إن ولعه بالحروف هو ولع بمادة للقول الشفوي في فجره اللساني ، بمعنى آخر يثق توفيق بن بريك في الشفوي بإعتباره مادة للملحمية، لذلك لا ملحمية دون التمركز قبل القواعد وقبل النحو والصرف، ولا ملحمية دون تهويم وتطواف وهذيان. أنظروا للنص في مجمله يمكن قراءته من حيث ينتهي إلى حيث يبدأ، وهو ما يعني أن «الرود ـ مروي «(هكذا أسميه) يجعلك تنطلق من أطلنطا أي أرض الأسلاف في سيدي أحمد الصالح والعودة على دراجة كوزكي إلى مدينة طاطا.
(4)
معركة توفيق بن بريك الحقيقية في الكتابة هو الاجتهاد في القدرة على المحو والذهاب إلى القول في تألقه كفزع رهيب تجاه الواقع، محو الترسبات، ترسبات القراءة والثقافة والمثاقفة، أنظر إلى نصه كم يتكئ على نصوص أخرى سابقة له من القرآن إلى البوشكين مرورا بجمهرة من الشعراء والكتاب شرقا وغربا. كأنه يتعمّد تعتعة القارئ وهو يعيده كل مرة للميراث حين تشتد حلاوة القص. أنه يبحث عن ضاد جديدة قادرة على توصيف الحاضر المضارع، ضاده هو التي يقدّها في الكتابة، في جوهرها، إذ مالذي يجعل من شخصية كـ «همام» سائق خردة الكوزاكي والشاكي من حاله التعيسة من ضنك الحياة ومن حال أولاده وزوجته قادرا على التنظير حول الكتابة؟ أليس الإمساك بناصية الكتابة وبضادها الوهاجة هي الكرامة نفسها التي يلهج بها من آمن بالثورة في تونس المضارع، وهي الحرية في أبهى ألقها ونقائها الأكسيجيني؟ ألا تستدرج هذه الحرية لغة جديدة، وقولا ناصعا فصيحا بلا مواربة ولا عهر ولا سمسرة ولا خوف؟ أليست الكتابة أي اللغة هي الموطن الحقيقي للحرية وللضمير، أليست الكتابة الحرة هي الموطن والوطن وقطعة الأرض التي بالإمكان رسم خريطة الجنة على أديمها الضحضاح؟ أليست الكتابة موطنا للسعادة؟ ألم يقلها توفيق بن بريك على لسان همام: «أريد وطائي. أريد نصيبي من الطاء». ألم تكن معركة الأسلاف لعل آخرهم علي بن غذاهم من أجل تلك «الوطاء»؟. أليست ضاد توفيق هي ذلك العضو عضو الخصوبة والفحولة المبتور؟ أليست الفحولة في الأنوثة والذكورة عنوانا للكرامة؟؟ .
(5)
إقرأ «كوزكي «كما تشاء، وقُل عن جنسه ما تشاء؟ قل مثلا أنه نص خنثوي إذا أعيتك نظريات الأجناس الأدبية. ولكن لا تحشره في الرواية، أو الرواية المضادة، أو الرواية التجريبية أو, أو.... كل هذا كلام لا يجدي نفعا لأن صاحبه اجترح لنفسه جنسا جديدا. جنس كشف عنه سابقا في «كلب بن كلب»، جنس يستمد شرعيته من كلام صاحبه، شبيه به في قسوته على نفسه وفي أسئلته الدائمة حول الكتابة وجدواها وشبيه به في مسكونيته بالرّعب والفزع وربما الكفر بكل شيء بالقوانين والأنساق والطرائق والموازين. أليس «كلب بن كلب» في جوهره سؤالا لا ينتهي عن الكتابة ووعورتها، أليس كوزكي مرة أخرى تساؤل في جوهره كتابة ضد سلطة الضحضاح، أي ضد الطريق الوعرة للكتابة منذ الشعر الجاهلي إلى اليوم؟. لقد كلف توفيق بن بريك نفسه مهمة إعادة القول الشفوي الخام والوحوشي إلى دائرة الشعرية الأدبية لا من خلال التناسق والأسلبة والهرمونيا بل من خلال المتجاور والنّافر والشّاعث والبدائي والهمجي البربري. إنها مهمّة إعادة اكتشاف اللغة بحشيشها وريشها وأتربتها وغبارها وطميها. وقد سلك في ذلك مسلك القوّالين والصعاليك والدراويش والمتولهين من أجل المعنى الفاضح والكلمة الجارحة العدوانية الهائجة الحروبية. لقد توغل في «كوزكي» توفيق بن بريك وهو يوهمنا أنه يسير على دراجة نارية في طريق معبدة ولكنه في الحقيقة يسلك ضحضاحا وعرا أو «ماكدام» Macadam, طريق برية لم يعد يسلكها السالك، «طريق عربي» نسيها الأدباء المتحذلقون الحريصون على لاهوت المبنى والمعنى والحريصون على تعريف الأدب بوصفه تأدبا، إنها الطريق الخفية التي يعرفها المشاؤون من الشعراء، وقناصو الثعابين السامة، وأصحاب الفراسة والشامانيون وقطاع الطرق .
(6)
طريق بن بريك هي طريق الشعرية الوحوشية المحضة التي نبه إليها والتر بن يامين Walter Benjamin في رؤيته للشعر الألماني حين دعا إلى إعادة اكتشاف المسالك الشعرية القروسطية المنسية في حديثه عن الشاعرة الألمانية هروسفيتا Hrosvitha التي أرضعت من شعريتها الدرامية والقروسطية الباروكية شكسبير وغوته وسترندبارغ وخاصة برتولت بريشت. لكن طريق بن بريك تونسية أساسا وقد خطها بشكل توبوغرافي في خريطتين في «كوزكي» أي في خريطة أطلنطاوين أو غرب المتوسط. وليست هذه الطريق الوعرة إلا الطريق التي حاول بعض الكتاب التونسيين المشي فيها وهم قلة قليلة (علي الدوعاجي، مصطفى خريف، عبد العزيز العروي، صالح القرمادي) لكنهم لم يتوغلوا فيها تماما، وهو ما يجعل توفيق بن بريك على الأقل في «كلب بن كلب» وفي «كوزكي « يعبدها. هذا التعبيد ليس إلا ثغرة منجنيق في أسوار الأدب التونسي والعربي المتأدب، وليس في الحقيقة إلا البحث عن مشروع كتابة ملحمية شفوية، لعلها مشروع أوسع إسمه كتابة الضحضاح أو كتابة «غرب المتوسط».
(7)
يقول والتر بن يامين حول القوال: «القوال هو الذي يترك كامل فتيلة حياته تشتعل على هدوء نار حكاياته، القوال هو الصورة التي يجد فيها الحق قول نفسه». وتوفيق بن بريك كقوال يشعل فتيلته المتوهجة في البرية البور، في الطريق الضحضاح حتى يعيد تطهير كل شيء. إنه تكنيك الأرض المحروقة في زمن الحصاد أو زمن اليباب.