"
الباقي " نصّ تداعيات ، أو مساحات تمارس فيها الشخصيّات حريّة الحديث عن هموم الذات والموضوع . تدور كلماته حول حدث واحد رئيس / صراع ( إبراهيم / سلمى ) . يغلب عليه الطابع القصصيّ ، من حيث مناخات الكتابة ، وطرق تصريف الأحداث ، ونحت الكيانات . ولقد تعدّدت القصص الفرعيّة فيه ( قصة سلمى ، قصة نادية ، قصّة سلمى الكحلة ) . لا خيط ينتظم هذه المساحات ، ولا وجود لمنطقة تقاطع تربط بين هذه الأرخبيلات إلاّ الإنتماء لذات الأرض ( النصّ ) ، ووجودها بين دفّّتي الكتاب . و لعلّّ الاستغناء ( القصص الفرعيّة ) عليها لا يؤثّر في الخطيّة السرديّة ، لا من بعيد ، ولا من قريب ، ولا يعرقل عمليّة الدفع بالسرد نحو تخوم تخدم الرواية من حيث بنيتها ، أو شخصياتها ، أو تطوّر أحداثها . ولعلّ ما يبرّر ذلك الخطّ الأجناسي المتداخل بكثافة في الرواية ، والمراوح مكانه بين تقنيات القصّة ، ونواميس كتابة الرواية هو تمكّّن السيدة آمنة الرميلي من فنّ القصّ ، وقد أثّر فيها أيّما تأثير من حيث طرق الصّياغة.
. خرج علينا الكتاب في شكل جزر لا ينتظمها خيط فاصل ، واصل كما أسلفنا القول ، فهو إلى فنّ القصّة أقرب ، وبه ألصق ، حيث لم تستثمر الكاتبة في بناء الرواية شخصيات كان دخولها إلى ساحة النصّ دخولا أبيض / غير مؤثّر ، ولم نر لوجودها أثرا ، أو صدى ، كشخصيّة الكاهنة ، أو شخصّية الأب ( والد سلمى ) ، أو شخصية الأمّ ( أمّ سلمى ) ، أو شخصيّة أمل / هذا المولود / الميت منذ البدء ، والمفعم بالرمزيّة ، والشاغل لحيّز هامشيّ في مساحات السّرد ، ممّا جعل حضورها ( الشخصيات المتحركة مع ثنائي الصراع ) مجتمعة باهتا ، غير وظيفيّ على خشبة الرّواية في تعايش الشخصيات ، وتفاعلها مع بعضها البعض ، ومع عوالم السّرد ، ومقتضياته ، فلا هي بالشّخصيات المعرقلة ، أو بالأخرى المساعدة ، وما هي بالعلامات ، أو الرموز الحمّالة لقرائن تؤدّي بنا إلى بلوغ الضفّة الأخرى للخطاب القابع خلف ملامح الشخوص المتحرّكة في فضاء الكتابة . وقد توهمك بدايات النصّ ، أو الفصول البدايات ( الإبرام /النقض ) بأنّك إزاء عمل سرديّ ، ينتمي بالضرورة إلى عالم " الرواية " ، من حيث مكانة الرّاوي / العليم منه ، ومن حيث مسك الرّاوي برقاب شخصياته ، وخاصّة منها ( سلمى / إبراهيم ) منذ إعلانه عن بداية الرّحلة ، ولكن خاتمة " الباقي " سفّهت أحلام الراوي ومقدّماته ، ومن بعده المتقبّل ، وقد كانت على مذهب تقنيات القصّة في مخاتلتها ، وتسفيهها لإنتظارات المتقبّل ، وغير متجانسة مع أفقيّة الأحداث ، ومعقوليّتها ، وتفاعلها السببيّ فيما بينها ... ولنضرب على ذلك مثلا شخصيّة " سلمى الكحلة " / العاشقة الفاشلة ، المعاقرة للخمر والكتاب ، والمرتمية حديثا في أحضان المقدّس ، إذ لم يكن وجودها داخل النصّ محرّكا ، ومساعدا في علاقتها ببناء ملامح بقيّة الشخصيات ، وخاصّة منها سلمى ونادية ، حيث جاء ذكرها في النصّ ذات ليلة حمراء عقدنها في غرفتها في " الوكالة " ، وكانت ليلة تحدّثت فيها ( سلمى الكحلة ) عن خيباتها العاطفيّة ، كما كان انتقالها من حال إلى حال لم يكن نسقيّا ، بل كان مفاجئا ، وغير مؤسّس ( من الفجور إلى التّقوى ) ، وكأنّنا بالكاتبة على قارعة حروفها مزدحمة المواقف ، والرؤى التي أنقضت ظهرها ، فأجرتها على لسان شخصياتها ( علي / سلمى الكحلة / الكاهنة ) . إنّ النصّ على صخبه ( كثافة استعمال الجمل الفعليّة) يبدو ثابتا ، لا يريم ، يطوف حول ذات الحكاية ( إبراهيم / سلمى ) ، ولولا تبدّل الأمكنة ( الوكالة /الجريدة/ المنزل / قصر الجمّ / المقهى ) ، ولولا التفتّح على أحداث أخرى (علاقة إبراهيم / أحلام ذات مساء شبقيّ ) لكان النصّ على شاكلة قطعة قصصيّة ، لايربطها ببقيّة الحلقات رابط ، إذ كانت هذه القصّة العرضيّة ( منزلتها في المتن ) خادمة للسرد مؤثّرة فيه ، وفي بناء شخصيّة إبراهيم وتحديد ملامحها على إمتداد الحيّز السرديّ وشاهدا على هزّاته ، وبالتالي كشفت عن مواطن التطوّر في ملامحها العامة والنفسيّة ، وكذا كانت محدّدة لبقية الخطّ السرديّ لها ، إلاّ أنّ شبكة العلاقات في مجمل النصّ لم تكن موفّقة النسج ، ولو تمّ تكثيف الحديث عن ( إبراهيم / / سلمى ) ( سلمى / الكاهنة ) ( إبراهيم - سلمى / أمل ) ) (إبراهيم / أحلام ) لكان العمل متماسك البنى ، ومتين الصلة بعالم الرواية ، ولكفانا كثيرا من الحديث ( قصص جانبية عرضيّة ) في النصّ ، ولكان " الباقي " عملا روائيّا . إنّ ما يحسب للسيدة آمنة الرميلي أناقة لغتها التي لا تستطيع منها فكاكا إلاّ لحظة إتمام قراءة الأثر ، وهو عمل جدير بالإهتمام والدراسة من اكثر من زاوية ، ويعدّ من النصوص العلامات في المدوّنة السردية التونسيّة