ازدانت مكتبة الهادي التيمومي بمولود أدبي جديد هي رواية سماها «ملح قرطاج»أ العنوان يحيل إلى الأسطورة القديمة التي تقول أن الرومان بعد هدمهم لقرطاج نثروا الملح في أرضها حتى لا تُثمر من جديد
ولكن ارض قرطاج ارض خصب لأنها أثمرت وأنتجت وازهرت من جديد .
ربما الأسطورة رمزية ولكن الحكاية في الرواية كانت كذلك فالملوك والحكام المفسدون في ارض تونس زرعوا سمومهم في كل شبر من هذه الأرض أذلوا جنودها ومحاربيها وظنوا انهم اسكتوا وألجموا الأصوات الصادحة بالحرية ولكن «للحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق» هكذا قال أمير الشعراء احمد شوقي.
عذاب السياسيين وقسوة الجلاد
حول الرواية يقول صاحبها « كتبت هذه الرواية تحت النير الثقيل، في أحلك زمن عرفه هذا الوطن المنكوب بأهله، فصورت أخر حدود المهانة البشرية، وانهيار كل قيمة ومعنى، وانسداد الدروب والافاق، حين ينحدر البشر الى حضيض الحيوانية، وينتهون الى افلاس القلب والروح»، الرواية كتبت في الزنزانة تحت مراقبة الجلادين، هربها صاحبها في محفظته الجلدية، فجاءت محملة بمعاني الألم والجور والظلم والتعذيب الذي يتعرض له اصحاب المواقف وخاصة المساجين السياسيين في فترة الحكم البورقيبي.
في الرواية نقل الهادي التيمومي ما يعانيه السجين «الرجل» من الم ومعاناة يكابر معها امام الجلاد، وينقل للقارئ بشاعة اساليب التعذيب ولعل أكثرها قرافة أسلوب القط يقول الكاتب على لسان الشخصية الرئيسية مسعود الزاير في الصفحة 257 « رأى احد الزبانية يحمل كيسا قماشيا كبيرا كذاك الذي يوضع فيه قمح البيادر، وقال منشرحا «هذا قط المزابل ستجرب معه شجاعتك، اعتبرها لعبة يا مسعود، ادخل راسك في الحاوية»
ويضيف الراوي السرد «واخذ فؤاد بشعره فطرحه أرضا وشل يديه وبحركة سريعة من الجلاد فتح الكيس ودفعه نحو مسعود حتى أنفذ فيه رأسه وأغلقه واندفع القط المرتعب ينهش وجهه ويغرس في خديه وشفتيه مخالب مسمومة ويمزق لحمه شر تمزيق...» صورة مقرفة موجعة تنقل وجيعة المساجين السياسيين وبطش الجلاد الذي لا تكف مخيلته عن استنباط طرق جديدة لتعذيب سجنائه حتى «نجعلك تكره هذا البلد وتفر بجلدك» كما جاء في نفس الصفحة.
المنافقون اشد وطأة على الوطن
تنقل الرواية حكاية مسعود الزاير احد «فلاقة» تونس الذين رفعوا السلاح في وجه المستعمر الفرنسي ولكنه رفض تسليم سلاحه بعد الاستقلال وراى في القرار خنوعا وهو الرجل الحر الأبي فمكث في الجبال إلى أن تعرض للخيانة وجاء في الصفحة 84 حوار بين مسعود الزاير وصديقه سلمان الشويعر حول خيانة احدهم « أتذكر يوم التحق بنا إلى الجبل، وادعى انه زيتوني قاوم ترتيبات الحكم الذاتي، ودعا إلى الثورة، زعم انه أمكنه الفرار من السجن فالتحق بالجبل ليواصل النضال..
حتى أفقنا ليلة كان يحرسنا على رجال الحكومة يطوقوننا وقد اخذ الخائن سلاحنا»وامسكته وحدات الشرطة وأودع في البداية مستشفى الامراض العقلية أين تعرض للتعذيب حتى يفقد ذاكرته بعدها أخذه فؤاد وبوبكر رجلا الشرطة ودرباه على ترويج المخدرات وسمياه البغل، فكان طائعا خاضعا لا يتذكر من ماضيه شيئا في زمن بيعت فيه الذمم ويقول في الصفحة 250 « أريد شراء أذان سامعة وعقول طائعة وأيد تنفذ الأوامر والسنة تلحس الأقدام»، تلك حال الزبانية الخانعين للسيد والموالين للأفراد على حساب الوطن.
في الرواية نجد رجلا الشرطة فؤاد وبوبكر جلادين قاسيين يبيعان الوطن ويستغلان فرصة ضعف الحدود للمتاجرة بالمخدرات متناسين ان واجبهما هو حماية الوطن «تعلمون يا سادة أن مسعود رجل بلا ذاكرة، لذلك ارتأينا استعماله في تهريب البضاعة على البر الجنوبي، فلو قدر القبض عليه فلن يستطيع الإدلاء بشيء، وقد دربناه على المهمة وهو الان مستعدّ» كما جاء في الصفحة 171، ويضيف « تهلل وجه جابر وقال «أحسنتم، طوبي لي برجال مثلكم، ما أكمل معلوماتكم، وأروع خططكم، أنا سعيد بقيادة رجال محنكين، فليتفضل قادة اللف والتخزين»، فهؤلاء حماة الوطن وشعارهم «فداء الوطن» نجدهم في الرواية سرّاق خيرات الوطن والمتاجرين بهيبته أمام مصالحهم الذاتية.
للوطن رجاله
مع كل قطرة دم تسيل تولد النخوة والعزة في الانتماء لهذا الوطن الصغير هكذا نقل الهادي التيمومي فمسعود الزّاير رغم العذاب لم يتراجع عن حبه لتونس وبقول « كان يعلم أن الوطن يحتاج إلى تضحيات وعذاب طويل حتى تبزغ شمسه» وكل عذاب صائر الى زوال...