في تعامله النقدي مع الرواية, وفي وقت باتت فيه قلة قليلة من الأعمال النقدية تحرص على الإحاطة بكل جزئية من جزئيات العمل الروائي, يغدو من الطبيعي أن يتوجه الناقد تجاه جزئية لافتة من جزئيات ما يقع بين يديه, متناولاً إياه من وجهة نظر معرفية لا تخلو من ذاتية انطباعية تفرض نفسها على القارئ عموماً, متخصصاً كان أو غير متخصص. من هنا تحضر هذه القراءة المختزلة لنص ( الباقي) للأديبة التونسية آمنة الرميلي لتلقي الضوء على جزئية بعينها؛ (السقوط الإنساني والسياسي) رأيتها هي الأبرز لأكثر من سبب, أقواها ملاحظة تكرارها موضوعاً تحمله الشخصية الرئيسية فيها عبر أكثر فصول هذه الرواية. وهي فصول ما كان لها أن تحضر دون أن تترك إيحاء بتعالق جدلي غير خفي بينها وبين بنية الحلقة القصصية, من حيث الإحساس باستقلالية مبدئية لكل فصل على حدة, لتتعالق الفصول مجدداً على نحو جدلي مشكلة فيما بينها حواراً خلاقاً يفرض على القارئ تحدياً كبيراً من حيث الوقوع على آليات هذا التعالق.
ما بين استقلال فردي يكاد أن يكون سمة لاحقة لكل حلقة قصصية على حدة, وما بين إحساس بضرورة إيجاد وحدة بنائية كبرى تجمع بين هذه الحلقات كما أسلفت, أقول إن العثور على صلات خفية تربط حلقات هذا النص لم يكن بالأمر الهين, وبدا لي الأمر بحاجة إلى أكثر من قراءة؛ فالنص في مواقع معينة يتراءى قريباً من روح بطلته العقربية ( سلمى)؛ تلف خيوطها اللزجة, وترسم أشكالاً احتيالية, غير بعيد عن أوراق كتبتها وتركتها متناثرة قبالة زوجها (إبراهيم) واضعة إياه وجها لوجه أمام حالة من التناقض الرهيب أو الازدواجية المخيفة, حيث العوالم القصية بما تحمله من شك وحيرة.
يحضر في هذا النص إبراهيم الذي سجن من أجل قضايا وطنية آمن بها, ما لبث أن تخلى عنها بعد تجربة عسيرة قضاها في السجن. ليتجلى لنا رجلاً آخر يعيد حساباته امتثالاً لمقتضيات الواقع, رافضاُ فلسفة القرابين, مقلداً رفاقاً له مناضلين تنصلوا مما يدعونه بطولة زائفة, مؤثرين عليها عيشاً كريماً آمناً, ليأتي قراره إثر ذلك بالابتعاد عن مثل وقيم أوصلته السجن, والرضوخ لمعايير مؤسسة صحفية تؤمن له من الطمأنينة مبتغاه, وليبرز إبان ذلك واقع خيانة وطنية غير بعيد عن عدو كامن في ذات داخلية أخفقت في هزيمته, لتصبح الطمأنينة سؤالاً حائراً يقع فيه إبراهيم « فارس المدينة العائد من هزيمته». الباحث عن الأمان ولا أمان. إذ لم يكن موت ابنته (أمل) أو وجعه في حب (أحلام) أو حتى (سلمى) إلا دليلاً على سقوط نفسي يقطع معه حبالاً تشده إلى الدنيا, ليظهر خائناً في جميع أحواله؛ مثبتاً في ذلك أن « الساقط فكرياً وسياسياً ساقط إنسانياً بالضرورة». وهو من يصف نفسه قائلاً:» بدت لي نفسي مسخاً قبيحاً يحمل أكثر من رأس ويتدلى منه أكثر من لسان ويلوح للناس بألف كف. امتلأ فمي بطعم لزج وراودني القيء بعنف». ليكون أنموذجاً لضائع يحمل قلباً ميتاً وإلى جانبه يرتمي قلم أشد منه موتاً, وليكون بالمثل واحداً ممن باعوا كلامهم وضمائرهم وشعاراتهم للسلطان وأذنابه بحثاً عن طمأني
أعود هنا للتأكيد على أن أغلب حلقات الرواية قد تمحور حول بؤرة ( السقوط الفكري والإنساني) لتأتي كل واحدة من هذه الحلقات, أو أغلبها حاملة درجة من درجات النمو والتطور من ( قصة/ إلى قصة) ( فصل/ إلى فصل) باتجاه المزيد من التنوع والتعمق لغرض تعزيز فكرة أسستها حلقة قصصية حافظت على وحدتها دون أن تلغي الوحدة البنائية للنص في كليته. علماً أن الرواية عموماً لم تكن معنية بالأحداث, قدر عنايتها بوصف حياة الفكرة فيها, لتسمعنا جدال أصوات العصر الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية .